الدولة الواحدة- ورقة المقاومة الحاسمة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

المؤلف: د. عمار علي حسن11.12.2025
الدولة الواحدة- ورقة المقاومة الحاسمة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

لا تتوقف السياسة عن العمل حتى في خضم أتون الحروب، بل تشتدّ وتيرتها، ثم تعقب توقف نيران المعارك ودماء القتال لتتولى حسم النتائج، فهي وحدها من يسطّر حصيلة ما جرى في ساحات الوغى، بل ترسم حدود النصر أو الهزيمة، وتشارك بقوة في تدوين صفحات التاريخ، ليغدو إسهامها جليًا لا محالة.

على امتداد الأشهر الطويلة التي استمر خلالها العدوان الإسرائيلي الغاشم على أهل غزة الصامدة، لم ينفك قادة المقاومة الفلسطينية الباسلة – ولا سيما حركة المقاومة الإسلامية "حماس" – عن إبداع سلوك سياسي يضاهي ما تقوم به المقاومة من أفعال بطولية في ميدان الدفاع والرد العسكري، وما يسطره أهل غزة الأشاوس من صمود جلل في وجه ترسانة عسكرية فتاكة تزهق الأرواح وتتسبب في الإصابات، هذا بالإضافة إلى التجويع والتعطيش المتعمد، ومنع وصول الدواء إلى المصابين الذين تجاوز عددهم السبعين ألفًا بعد ما يزيد على مئة وستين يومًا من العدوان، بالإضافة إلى نحو واحد وثلاثين ألف شهيد، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء.

ورقة حاسمة

توالت التصريحات الصادرة عن القادة السياسيين لحماس، وانخرطوا في جولات التفاوض المتلاحقة التي باءت بالفشل الذريع، والتي وصلت إلى مرحلة "عضّ الأصابع"، لكنهم لم يلجأوا حتى اللحظة إلى استخدام الورقة الأقوى، تلك التي باستطاعتها تغيير مجرى الحسابات، ومكافأة الهجوم العسكري المباغت الذي وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والذي أجمع خبراء الحرب والاستراتيجية في شتى بقاع الأرض على أنه عمل فارق لافت، سواء من حيث عنصر المفاجأة الذي حققه أو من حيث النتائج التي تمخضت عنه في الساعات الأولى.

بات جليًا للعيان أن الساحة الفلسطينية – ولا سيما في أوساط المقاومة – ينقصها هذه الورقة الحاسمة، والتي أصبح العالم أكثر استعدادًا لتقبلها من أي وقت مضى، في ظل التعاطف الواسع النطاق والعميق الجذور الذي كسبته القضية الفلسطينية العادلة بعد سنوات طوال من التجاهل والظلم الفادح؛ نتيجة الانحياز المطلق للرواية والموقف الإسرائيليَّين طيلة ثلاثة أرباع قرن من الزمان.

ليست هذه الورقة المنشودة سوى طلب الجناح السياسي للمقاومة الفلسطينية، عقب اتفاق شامل مع جناحها العسكري، بالدعوة الصريحة إلى إقامة "الدولة الواحدة" التي تقوم على أرض فلسطين التاريخية بأكملها، وتضم بين جنباتها الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، وكذلك أتباع الديانات السماوية الثلاث – في هذه الرقعة الجغرافية المضطربة – من اليهود والمسلمين والمسيحيين.

لقد تجلى للجميع أن إسرائيل ترفض رفضًا قاطعًا حل الدولتين، ولم تبد أي بادرة موافقة على هذا التصور الذي حمله اتفاق "أوسلو" المشؤوم في عام 1993 إلا لكسب المزيد من الوقت الثمين، حتى تتمكن من قضم أراضي الفلسطينيين تباعًا في الضفة الغربية وقطاع غزة المحاصر، ثم تخطط لتهجيرهم جميعًا، بشكل تدريجي ومنظم، دون أن يستثنى من هذه الخطة الجهنمية فلسطينيو عام 1948 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية.

سلطة شكليّة

لم تكن هذه الخطة الشريرة خافيةً على أحد تمامًا، فقد صرح العديد من قادة إسرائيل مرارًا وتكرارًا بأن قبول فكرة "الدولة الفلسطينية"، حتى لو كانت منزوعة السلاح كما اقترح البعض، يعني بكل وضوح نهاية إسرائيل كدولة خالصة لليهود، كما أعلنت هي من قبل، دون أدنى خجل من أن تكون هي الدولة الدينية الوحيدة في العالم المعاصر، بل تبدو مُصرّة على التمسك بهذا الوصف، ومعتزة به أيما اعتزاز، وتجد من القوى الكبرى تواطُؤًا سافرًا معها، وصمتًا مطبقًا عنها، بالرغم من الأدبيات الرائجة في الشرق والغرب، والتي تعتبر أن "الدولة الدينية" هي نتاج عصور القرون الوسطى البائدة، والتي لا تصلح بحال من الأحوال للعالم الحديث والمعاصر.

لقد سبق للكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم أن أرسل رسالة إلى مناحيم بيغن – وهو أحد أبرز القادة السياسيين في إسرائيل – يطالبه فيها بالسماح للفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة إلى جانب إسرائيل، حتى تتيسّر مهمة الرئيس الراحل أنور السادات في إبرام اتفاق سلام شامل ونهائي بين العرب وإسرائيل. غير أن بيغن رد في ذلك الوقت – وفقًا لما ذكرته أوراق مكتوبة باللغة الفرنسية تركها الحكيم، والتي تمت ترجمتها مؤخرًا – بأنه لا يستطيع اتخاذ مثل هذا القرار المصيري، لأنه يحمل في طياته مخاطر جسيمة على مستقبل إسرائيل.

وقد بات معلومًا للجميع الآن أن قادة إسرائيل الحاليين لا يزالون مخلصين لموقف بيغن المتصلب، بل إنهم يتهربون أيضًا من القيام بالواجبات الملقاة على عاتق القوة القائمة بالاحتلال تجاه الشعب الذي يرزح تحت وطأتها، متذرّعين باتفاق أوسلو، على الرغم من أنه لم يأتِ للفلسطينيين سوى بسلطة شكلية مقيدة، بعد أن تهربت إسرائيل من استكمال بقية بنود هذه الاتفاقية الهامة، وعلى رأسها البنود الخاصة بالسيادة الكاملة والمياه ومصير القدس الشرقية.

واليوم، وفي ظل نظر محكمة العدل الدولية في الدعوى القضائية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا، متهمةً إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية مروعة بحق أهل غزة، تصاعد الحديث على ألسنة المسؤولين الجنوب أفريقيين أيضًا عن سياسة "الفصل العنصري" البغيضة التي تمارسها إسرائيل بشكل ممنهج ضد الشعب الفلسطيني، من خلال الجدار العازل العنصري في الضفة الغربية المحتلة، والمعابر الحدودية التي تمثل الرئة الأساسية التي يتنفس منها قطاع غزة المحاصر، والتي تتحكم فيها تل أبيب بشكل كامل، ولا سيما مع اعتزامها احتلال محور فيلاديلفيا الحدودي؛ بهدف إنهاء الدور الحيوي لمعبر رفح البري الذي يربط قطاع غزة بجمهورية مصر العربية.

نقطة التقاء

يتصاعد الحديث يومًا بعد يوم عن هذا "الفصل العنصري" المقيت، وتزداد المقارنة بشكل ملحوظ بين تجربة السود المريرة في جنوب أفريقيا في ظل نظام الأبارتايد البائد، وتجربة الفلسطينيين القاسية تحت نير الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، وكما زال النظام العنصري الأول بعد كفاح مسلح ثم سلمي مرير وطويل الأمد، يمكن للثاني أيضًا أن يندثر ويتلاشى في يوم من الأيام. وكما لم يكن أحد يتخيل حتى أواخر ثمانينيات القرن العشرين أن الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا سيخرج من سجنه الرهيب ليصبح رئيسًا لجنوب أفريقيا الموحدة، لا يتخيل الكثير من الناس الآن أن الفلسطينيين والإسرائيليين يمكن أن يعيشوا جميعًا في كنف دولة واحدة موحدة.

إن إحدى الصور الممكنة لزوال الاحتلال البغيض هو الانتقال السلس إلى حل "الدولة الواحدة"، وهي مسألة ليست من قبيل المستحيلات أو ضربًا من الخيال الجامح، فهناك ما يقارب مليون فلسطيني يعيشون في إسرائيل ويحملون جنسيتها الإسرائيلية، وقبل إعلان قيام دولة إسرائيل المزعومة كان هناك العديد من اليهود الذين يحملون الجنسية الفلسطينية الأصلية، بمن فيهم جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية الأسبق.

ولو رفع الفلسطينيون الآن، بعد توافقهم وتوحدهم، مطلب "الدولة الواحدة" العادلة سيضعون إسرائيل في مأزق شديد أمام المجتمع الدولي بأسره، حال رفضها المتوقع لهذا الطرح المنطقي، حيث ستظهر إسرائيل كقوة غاشمة متغطرسة توصد الأبواب بإحكام أمام أية حلول طبيعية ومنطقية، بات العالم في ألفة نسبية معها، في ظل التجربة الملهمة لجنوب أفريقيا.

هذا الطرح الجريء سيبدد إلى الأبد الدعاية الإسرائيلية المضللة التي تسوّقها إلى العالم أجمع، والتي تزعم زورًا وبهتانًا بأن المقاومة الفلسطينية تسعى إلى إنهاء الوجود اليهودي بشكل كامل، ولا ترضى بأي بديل عما تسمّيه "تحرير فلسطين من البحر إلى النهر"، وقد يكون الطرح نفسه نقطة التقاء جوهرية تجتمع حولها كافة الفصائل الفلسطينية لإنهاء انقسامها المرير، ووضع العراقيل في طريق الحلول الأخرى الخبيثة، التي تعرضها إسرائيل حاليًا، وتطلق عليها كذبًا وزورًا "اليوم التالي بعد الحرب".

خطوة شجاعة

إن تفكير إسرائيل يصل في حدّه الأقصى إلى تهجير الفلسطينيين عن بَكرة أبيهم، واقتلاعهم من جذورهم، وفي حدّه الأدنى يصل إلى إدارة قطاع غزة المحاصر من قبل حكومة عميلة دمية غير تابعة لحركة حماس المقاومة، تكون تابعة بشكل كامل لتل أبيب، وتأتمر بأوامرها. ومنذ الأيام الأولى من الهجوم البري الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، والتصور الأخير مطروح بقوة، وإن اختلفت الأسماء التي يتم عرضها لتولي رئاسة هذه الإدارة العميلة.

نعم، ليس كل ما تتمناه إسرائيل تدركه، وإلا كانت قد حققت جميع أهدافها المعلنة من هذه الحرب الشعواء، ولكن مثل هذه التصورات السياسية تحتاج بشكل ضروري إلى تصورات مقابلة قوية، تصدها أو على الأقل تبعثر حساباتها وأوراقها الخبيثة؛ لأنها تقدم طرحًا إستراتيجيًا خبيثًا بوسعه أن يكسب المزيد من المؤيدين والمقتنعين به، والمناصرين له في جميع أنحاء العالم، والذين يزداد عددهم بشكل تصاعدي بمرور الأيام. ولا يوجد ما يمنع على الإطلاق من أن يظهر في فترات لاحقة من ساسة إسرائيل نفسها من يؤمنون بهذا الطرح العادل، أو يُضطرون بشكل أو بآخر إلى تبنيه وتبني قيمه ومبادئه.

لقد تساوقت إسرائيل على مر السنين مع فكرة "حل الدولتين" المزعوم دون أن تكون مقتنعة بها قيد أنملة، وذلك فقط من أجل كسب المزيد من الوقت واستدرار التعاطف الغربي الزائف، واستعمالها كستار كثيف يخفي وراءه نواياها الحقيقية الخبيثة، ولا سبيل إلى رفع هذا الستار السميك إلا من خلال طرح حقيقي وجاد يلقى قبولًا عالميًا واسعًا، والذي ينصت باهتمام إلى صوت إسرائيل وهي تتهم المقاومة الفلسطينية الباسلة بأنها تسعى جاهدة إلى استئصال الوجود اليهودي بالكامل على أرض فلسطين التاريخية.

يحتاج هذا الطرحُ في المقام الأول إلى خُطوة شجاعة وجريئة تضعه محلّ نقاش فلسطينيّ داخلي جاد ومستفيض، حتى يتم الاتفاق عليه وتحديد معالمه بوضوح ورسم مساره إلى النهاية، ثم يُعرض بعد ذلك على العالم أجمع بجميع منظماته وهيئاته ومؤسساته، وقد يكون هذا الطرح من أهم النتائج الكلية المرجوة للحرب الدائرة الآن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة